ظهرت اختلافات كثيرة بين العلماء حول العوامل
المؤثرة في الذكاء الإنساني، هل هي عوامل بيئية أم عوامل وراثية، حتى جاءت نظرية الذكاء
لريموند كاتل عام 1963م والتي تصنف ضمن علم النفس السلوكي، حيث ميَّز في هذه
النظرية بين قدرات الذكاء ذات الأساس البيولوجي والتي سمَّاها بالذكاء السائل،
وقدرات الذكاء ذات الأساس الثقافي أو البيئي والتي سمَّاها بالذكاء المتبلور، وفي هذه
المقالة سيتم تناول هذين المفهومين من حيث خصائصهما والاختلافات بينهما وطرق
قياسهما وكيفية تنميتهما والإفادة منهما في مؤسساتنا التربوية والتعليمية.
الذكاء
السائل
الذكاء
السائل هو ذكاء فطري مرن يتمثل بقدرة الشخص على التفكير بشكل منطقي، وتطوير الحلول
للمشكلات الجديدة، من خلال الاستقراء والاستنباط وتحليل المشكلات وإدراك العلاقات
بين الأشياء واستنتاج حلول لهذه المشكلات دون الاعتماد على الخبرة السابقة أو المعرفة
التراكمية، وهو ضروري لحل
جميع المشكلات المنطقية في مجالات العلوم والرياضيات، والتقنية.
ومن
الملاحظ أن الذَّكاء السائل مرتبط بالإبداع؛ فباستخدامه تحل المشكلات
غير المألوفة في المواقف والأنشطة
المتنوعة، كما أنه يعتمد على الكفاءة العملية للجهاز العصبي المركزي مما
يساعد المتعلم على الفهم والاستيعاب أثناء عملية التعلم. ومن أمثلة استخدام الذكاء
السائل حل الألغاز، وبناء الخطط للتعامل مع المشكلات الجديدة، وسرعة التفكير، وسرعة
المعالجة البصرية والسمعية للمعلومات، والتخزين أو الاسترجاع من الذاكرة في زمن قصير، وتنسيق
الأفكار والتقاط اللغات وسرعة التعلم والحساب والاختراع والتحليل والتخطيط وسرعة البديهة.
يبلغ
الذكاء السائل ذروته في أواخر مرحلة المراهقة ثم ينخفض تدريجياً، ومن المحتمل أن
يكون انخفاضه مرتبطًا بتدهور الأداء العصبي أو نقص استخدامه في المراحل المتأخرة
من العمر. كما يُعزى انخفاض الذكاء السائل إلى ضمور
المخيخ الأيمن، والتغيرات المرتبطة بالعمر في الدماغ، ومع ذلك تشير الأبحاث
الحديثة إلى أن أجزاء معينة من الذكاء السائل لا تصل إلى ذروتها إلا عند سن
الأربعين.
الذكاء
المتبلور
الذكاء
المتبلور هو القدرة على استدعاء واستخدام المهارات والمعرفة المكتسبة في حل المشكلات
الجديدة، فهو حصيلة الإنجاز الفكري والمعرفة التراكمية للفرد، من مهارات لفظية وعددية
ومفردات، ومعلومات ومعارف عامة يكتسبها الفرد ويخزنها في ذاكرته طوال حياته، فهو يعتمد على التعليم والثقافة والتجارب
السابقة، وغالباً ما تنمو هذه المهارات وتعزز في المؤسسات التعليمية. ويتم قياسها
باختبارات المعلومات العامة. ومن أمثلة استخدام الذكاء المتبلور؛ تذكر الأحداث التاريخية
والمفردات، والمواقع الجغرافية، وقراءة الأبيات الشعرية، والطلاقة في استرجاع
المعلومات من الذاكرة طويلة المدى،
ويحدد الذكاء المتبلور للفرد بمدى عمق واتساع معرفته العامة ومفرداته وقدرته على التحليل العقلي باستخدام الكلمات والأرقام. 
يستمر
الذكاء المتبلور في النمو تدريجيًا خلال مراحل الطفولة والمراهقة والرشد ثم يبدأ
في الانخفاض، ولم يتم التأكد بعد من العمر الذي يصل فيه الذكاء المتبلور إلى ذروته
قبل أن يبدأ بالانخفاض. 
الاختلاف
بين الذكاءين السائل والمتبلور 
هل
تفضل حفظ الحقائقِ والمعلومات أم تركيب قطع من المعداتِ باستخدام رسمٍ تخطيطي؟
توضحُ هاتانِ المهمتانِ جوهر الاختلاف بين الذكاءِين السائلِ والمتبلور، فهما
نوعان مختلفان من أنواع الذكاء حسب التصنيفات العلمية،
وأحيانا توجد بعض المهارات تتطلب كلا الذكاءين. فعلى سبيل المثال، عند إجراء
اختبار للرياضيات، قد يعتمد التلميذ على ذكاءه السائل المرن للإجابة عن الأسئلة المحددة
في غضون الوقت المخصص. وفي نفس الوقت، قد يضطر
إلى استخدام الذكاء المتبلور لاستدعاء المفاهيم والنظريات الرياضية لاستخدامها في
الإجابة الصحيحة، وبالمثل، يستخدم رائد الأعمال ذكاءه السائل المرن لتحديد فرصة
جديدة في سوق العمل، إلا أن إنشاء منتج معين لتلبية احتياجات سوق العمل يتطلب
معرفة سابقة بسوق العمل والمنتجات المنافسة وكمية الاحتياج . . الخ، وبالتالي
استخدام الذكاء المتبلور.
على
الرغم من هذه العلاقة المتبادلة الواضحة بين الذكاءين، الا أن الذكاء المتبلور ليس
نوعًا من الذكاء السائل تبلور بمرور الوقت، وإنما استثمار الذكاء السائل من خلال
تعلم المعلومات الجديدة واستيعابها وفهمها وتخزينها ينتج الذكاء المتبلور، والناس
الذين يتمتعون بذكاء سائل مرتفع هم أكثر قدرة لأن يكتسبوا المزيد من الذكاء
المتبلور.
وقد
أصبح الذكاء المتبلور ذا قيمة غير متناسبة مع الذكاء السائل في عصرنا الحاضر الذي
يتسم بكثرة المعلومات، لأن الأنظمة التعليمية تركز على تلقين المعلومات والحقائق
التي تطور الذكاء المتبلور، وتهمل تدريب الطلاب على المهارات التصورية التي تنمي
الذكاء السائل. ويمكن توضيح الفروق بين الذكاءين كما في الجدول الآتي:
| 
   الذكاء
  السائل (GF) Intelligence
  Fluid  | 
  
   الذكاء
  المتبلور (GC) Intelligence
  Crystalize  | 
 
| 
   حل
  المشكلات الجديدة باستخدام الاستنباط والمنطق والحدس  | 
  
   حل
  المشكلات الجديدة
  باستخدام الخبرة السابقة والتدريب  | 
 
| 
   عملية
  فطرية  | 
  
   معرفة
  مكتسبة  | 
 
| 
   متحرر
  من أثر الثقافة  | 
  
   مرتبط
  بالثقافة والبيئة المحيطة  | 
 
| 
   يثبت
  نموه في نهاية مرحلة المراهقة ثم يتناقص تدريجياً مع التقدم في العمر  | 
  
   يستمر
  نموه مع التقدم في العمر  | 
 
| 
   يقاس
  باستخدام الاختبارات الأدائية غير اللفظية  | 
  
   يقاس
  باستخدام الاختبارات اللفظية  | 
 
قياس الذكاءين السائل والمتبلور
يتم
قياس الذكاء السائل من خلال بعض اختبارات القدرات العقلية، ومن اهم الاختبارات
التي تقيس الذكاء السائل اختبار مصفوفات رافن المتتابعة، والذي يقيس
القدرة على تمييز العلاقات بين الأشكال المختلفة وملاحظة السمات المترابطة بناءً
على تحديد المواقع المكانية. ومقياس الأداء في
اختبار وكسلر للذكاء وهو
اختبار غير لفظي ويعتمد على المحفزات البصرية ويتكون من خمسة اختبارات هي: تكملة الصور
وترتيبها وتجميع الأشياء واختبار المكعبات واختبار الرموز، ونستطيع القول أن جميع الاختبارات
غير اللفظية قادرة على قياس الذكاء السائل.
أما
الذكاء المتبلور فيتم قياسه بالاختبارات اللفظية لمقياس وكسلر للذكاء والذي يشتمل
على ستة اختبارات لفظية هي: الفهم العام وتذكر الأرقام والمفردات وأوجه التشابه
والمقارنة والحساب، ويمكن القول أن معظم الاختبارات اللفظية قادرة على قياس الذكاء
المتبلور، كما يقاس الذكاء المتبلور باختبار C
وهو اختبار نصي تم اقتراحه في البداية كاختبار
إتقان للغة الأجنبية، إلا أن البناء الأساسي له يتوافق مع القدرات الكامنة وراء
المكون اللغوي للذكاء المتبلور. 
تنمية
الذكاءين السائل والمتبلور في المؤسسات التربوية والتعليمية
كان
يُعتقد على نطاق واسع أن الذكاء السائل ثابت، لأنه يعتمد على العوامل الوراثية،
وبالتالي لا يمكن تغييره، ومع ذلك، قدمت بعض الأبحاث مقترحات لتحسينه، ففي
تجربة خضع لها 70 مشاركًا لمهام يومية وتدريب منتظم لوحظ ارتفاع ملحوظ في ذكاءهم
السائل في نهاية التجربة. وبناءً على هذه التجربة وغيرها من التجارب يمكننا
المحافظة على استمرارية نمو الذكاء السائل لدى المتربين في المؤسسات التعليمية والمحاضن
التربوية وذلك بتحسين الوظائف الإدراكية للدماغ من خلال تفعيل البرامج التي تعتمد على
المهارات الحركية والتآزر بين كل من اليد أو الرجل مع العينين وأيضاً التمارين
الرياضية والبدنية اليومية، ومن أفضل الطرق لتحسين الذكاء السائل ممارسة المهام
غير الدراسية، مثل تحسين العادات اليومية، والنشاط البدني والاستثارة الحركية وممارسة
الفنون والهوايات والتأمل، والحصول على كمية كافية من النوم ليلاً، وهذه البرامج
اذا تحولت إلى عادات يومية لدى الفرد فإنها تسهم في تحسين وظيفة الدماغ في المراحل
العمرية المختلفة. بالإضافة إلى ذلك يمكن تطوير المناهج الدراسية والوسائل التعليمية
وطرق التدريس بقوالب جديدة تحتوي على الألعاب والمسابقات والأنشطة والتجارب العملية
التي تسهم في تطوير الذكاء السائل وتنشيطه والمحافظة على رونقه وبريقه إلى ما بعد مرحلة
المراهقة. ومن أهم الوسائل لتنشيط الذكاء السائل تدريب الذاكرة العاملة أو الذاكرة
قصيرة المدى على مهام مختلفة. فالذكاء السائل ينمو كلما ازدادت سعة الذاكرة العاملة.
أما الذكاء
المتبلور فيتحسن مع التقدم
في العمر من خلال التعليم والخبرة والتجربة وممارسة المهام الدراسية، وبذل الجهد،
ولكن لو أردنا تحسينه بشكل أفضل فيمكن تطوير قواعد بيانات للمعلومات الكثيرة وتخزينها
في الذاكرة طويلة المدى، ثم التدريب على كيفية استرجاعها واستدعائها من الذاكرة.
بالإضافة إلى ذلك يمكن تحسين وتجويد محتوى المناهج الدراسية بحيث تكون واضحة
ومنظمة ومختصرة حتى يسهل على المتعلمين فهمها والاحتفاظ بها واستدعائها بسهولة وفي
الوقت المناسب وتوظيفها في جوانب الحياة المختلفة. ومن المهارات التي تسهم في
تنمية الذكاء المتبلور تدريب المتربين على تطوير عاداتهم في الاستماع والتركيز والقراءة
الواعية والتلخيص والحفظ والاستذكار، وتحسين المفردات اللغوية. 
ويمكن
تطوير الذكاءين السائل والمتبلور معاً بتحسين العوامل المؤثرة في الأداء العقلي
وأهمها تعزيز الدافعية وتنمية العاطفة والمعتقدات، وتحسين البيئة والمناخ الذي يعيش
فيه الفرد، والاستمتاع بالمهام الدراسية والمهام الحياتية المختلفة، وإقناع المتربين
أن ذكاءهم قدرة مطواعة ومرنة تتغير
بتغير الجهد المبذول في تحسينه وتطويره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق